ليست المرة الأولى التي أضطر فيها إلى فعل هذا.
ربما هذه رابع مرة، أو هي الخامسة. والسيناريو تقريبًا لا يختلف. بعدما أنهي سهرتي مع أصدقائي النخبويين قرب الثانية صباحًا بدون أن أحظى بدعوةٍ من أحدهم للمبيت عنده، أجدُ أن أفضلَ خيارٍ كي أقضي الساعات المتبقية على ميعاد دوامي الوظيفي في الثامنة.. أن أذهب إلى محطة قطار مصر.
لماذا محطّة القطار؟ ثمّة شيءٌ لم أعرفه بعد يدفعني لهذا. شيءٌ يتجاوز الرغبة في الإحساس بالأنس وسط أناسٍ، أعلم أننا نتشارَك أمورًا كثيرًا أقلّها الهموم والمصريّة. شيءٌ يتجاوز الرغبة في البقاء مستيقظًا وسط هذه الأجواء من الحركة والضجيج. شيءٌ يضاهي الحياة.
هكذا أخوض رحلتي للمرة الرابعة، ربما هي الخامسة، قاطعًا المسافة من شارع الهرم إلى ميدان الجيزة، من أسفل النفق، وأركب سيارة متجهة إلى رمسيس. أصل، أنزل، أخترق إحدى حواري السبتية، يشدّني منظرُ رجُلٍ يجلس على كرسي القهوة نائمًا وقد تدلّت نظّارته على أنفه ورأسه على صدره وكرشه على فخذيه، وفنجان القهوة بجانبه يتصاعد منه البخار. أكمِلُ متجهًا نحو الأبواب الزجاجية لمحطة القطار. ثمّة دفءٌ تبعثه تلك الإضاءة الصفراء الباهتة التي تملأ بهو المحطة وأركانها وأرصفتها.
أُنهي صلاتي في ذلك الركن المنزوي. وكعادتي في كل مرة، وبينما أمشي في ثبات كأنما أعرف وجهتي، أتظاهر بأنني قدمتُ مبكرًا عن ميعاد قطاري، قطاري المحتمل - بهذه الكيفية- يأتي على كل الأرصفة.
عامل النظافة على رصيف (1) يرشّه بالماء، وكل كراسي الانتظار ملآى. حسنًا، ماذا عن رصيفي (2) و (3)؟! آخر مرة جلستُ على رصيف (2) مستقبلاً الجالسين على رصيف (4). الوجوه على هذا الرصيف المقابل تتغيّر كل مرة.
أتقدّم على رصيف (2). كافة الكراسي ملآى. الوجوه هي هي، صرتُ أحفظ أكثرها، وبطبيعة الحال سبق أن حدث تعارفٌ بيني وبين بعضِهم.
هذا الشعر الرمادي الطويل المتجعدّ، لا ريب أنه الأستاذ "خديوي". موظفٌ على المعاش من قويسنا، يعمل في مطعم كشري على الطرف الآخر من السبتية. لم يجد الرجل بعد خروجه على المعاش وسيلةً ليزوّج بناته الثلاثة سوى العمل في طهي المكرونة في مطعم الكشري هذا. ولأنه يريد توفير كلّ قرشٍ لأجل بناته، فهو لا يدفعها في سكنٍ يأوي إليه في مواعيد الراحة. إنه ببساطة يأوي إلى كراسي محطة القطار.
أواصل خطواتي المتمهّلة، أسمعُ شخيرًا عاليًا، اعرف هذا الشخير، أتوقف وأطلّ على المتواري خلف ظهر الكرسي. كنت أعرف أنه هو. إنه "حمدي". شابٌ موظّفٌ من المحلّة، يتغيّب عن عمله كموظّف في المحليات بمدينته، ويتكفّل أصدقائه بإمضاء الحضور والانصراف نيابة عنه، بينما يعملُ مناوِلاً للطلبات في قهوةٍ شهيرة بميدان رمسيس. لم أستطع أن أفهم سرّ إيواء "حمدي" هو الآخر إلى المحطّة. لم يخبرني الأستاذ "خديوي" عنه أكثر من ذلك.
أتطلّع ببصري، بقية الكراسي ممتلئة بالأجساد الممدّدة في إنهاك. أشعرُ بالخيبة. ثمّة كرسيٌ يجلس عليه كهلٌ مهندَم فاردًا ذراعيه بطولهما على ظهر الكرسي ذات اليمين وذات اليسار. تجاوزته، ثم عدتُ إليه بعد خطوتين.. (ممكن أقعد جنب حضرتك لو سمحت؟!) انتبه وأجاب بأريحية وهو يتزحزح ململمًا ذراعيه: (آه، آه، اتفضل).
جلستُ، ومن خلفي شخيرُ أحد الآوين إلى رصيف المحطّة يعلو ويخفت في انتظامٍ مُغيظ. ألم يكن هناك غير هذا الكرسي الذي من خلفه هذا المشخّر العظيم؟! ينبغي ألا أمارس رفاهية التساؤل في هذه الحالات؛ فجميعُهم يشخّرون.
لاحظني الكهلُ المهندَم، فأقبل عليّ بوجهِه..
- معرفش المحطة بيقلبوها لوكاندة وللا إيه؟!
- الناس أكيد تعبانة وبتريّح مستنية القطورات بتاعتها.
- ماشي، مانا مستني القطر بتاعي أنا كمان. آه على رأيك.
تململتُ قليلاً:
- بس مش كلّهم مستنين قطوراتهم. في ناس مستنيّة النهار يطلع، مش أكتر.
تبادلنا الحديث والاستماع، عن عمله وعملي، عن أحوال البلاد، عن غباء النظام، عن أبنائه الذين شجّعوه على النزول معهم ظهيرة 25 يناير، ولم يرجعوا إلا حينما رجع الناس، عن تشديده على ابنته لتصبح طبيبة ماهرة، عن وساطته لابنه بالمال والقضاة لتعيينه وكيلاً للنيابة، عن مشكلته منذ سنوات مع كفيله السعودي الذي أكل من حقه آلاف الدولارات، عن صدمته التي تلقّاها من فم وزير الخارجية شخصيًا، عن معايرة كفيله السعودي له بأن المصريين يقفون في طابور للحصول على الخبز، عن غربة 25 عامًا قضاها في السعودية.
فجأة قطع حديثه ونظر إلى الأجساد المستلقية من حوله على الكراسي يمينًا ويسارًا، وتنهّد ونظر أمامه:
- أنا اتغرّبت؛ بس المال في الغربة وطن.
ثم نظر في عينيّ مومِئًا نحو أولئك النائمين، وربما نحوي أيضًا..
- الفقر في الوطن غُربة.
لم ينتزعنا من حديثنا إلا مرأى العامل يرشّ الماء على أول الرصيف، قرب جثةِ صبيٍ نائم على الأرض بلا اكتراث. نادى الكهلُ عليه منزعجًا فألقى الخرطوم أرضًا وأقبل. كنتُ متأذيًا وأنا أرى الصبي يعتدل ماسحًا الماء عن وجهه وساقيه، بينما يتقدّم العامل.
- هو ّ دة مش بني آدم يا جدع انت؟!
- يا عم ماتشغلش بالك، دة طفل شوارع.
- طفل شوارع يعني إيه؟ بني آدم دة وللا مش بني آدم؟! هتخسر إيه يعني لو هزّيته وخلّيته يقوم بدل ما تغرّقه كدة.
نظر العامل نحوي، تلقّي نظراتي المثبّتة في عينيه بامتعاض، ثم التفت نحو الصبي، وذهب نحوه وأشار له بالنهوض. نهض الصبي منكسرًا مترنحًا وانصرف.
الساعة الآن، الرابعة والنصف، النهار أيضًا بدأ في النهوض. يمكنني أن أفعل شيئًا مختلفًا هذه المرة. لن أنتظر المترو الذي لا يشرّف محطّة الشهداء تحت ميدان رمسيس إلا على الساعة السادسة.
صافحتُ الرجلَ واستأذنته، واتجهت نحو أبواب المحطّة من جهة السبتية، وأنا أتفكّر في نفسي: هل سأضطر يومًا أن أمدّد جسدي ليلةً ما كهؤلاء المصريين ساكني محطة القطار؟! منذ ساعتين رأيتُ رجلاً ملتفًا في بطانية نائمًا تحت نفق الجيزة، وبجواره زجاجة مياة فارغة. لحظتها تذكّرت مأساة إخواننا السوريين، ودعوتُ الله ألا يكتبها عليّ ولا على أهلي!
أمام المحطّة فوجئت بأجسادٍ متناثرة على أشباه أرصفة، ممدّدةً ومتكوّمة، الصبي طفل الشوارع متكومٌ ولا زال مبتلاً، رجلٌ يتوسّد - بطريقة اعتيادية- بطانية ملفوفة برباط قماش ، لاريب أن هذه البطانية لا تفارقه. ثالثٌ على الرصيف يتوسّد حقيبته الـ"هاند باج" وهو يتكلّم في الهاتف ناعسًا..
- لا يا حبيبتي في لوكاندة لطيفة كدة قريبة من الموقف. لا ما تقلقيش أنا عامل حسابي على آخر الشهر.
هذه الأجسادُ تدقّ في حلقي غُصّة غائرة. تنتابني رغبة في البكاء إشفاقًا عليهم. هذه مأساة إخواننا المصريين!
أكملتُ وأنا أحاول غضّ بصري؛ كيف تخطّينا تلك القدرة على الاحتمال إلى القبول والتسليم. نحن المصريين أمةٌ من المساكين.
بوابات المترو لا زالت مغلقة، ودرجات السلّم النازلة نحوها تكتظ بالمنتظرين، النائمين جُلُوسًا ومفرودين.
نحو الجهة الأخرى - حيث السيارات أمام مسجد الفتح- اتجهت. المساحات الخضراء في الميدان تتوسّدها وجوه أخرى كثيرة، ما بين أشعثَ أغبر، ومُهندَم مستسلم، وعابر سبيل لا يعلم له مستقَر!
أواصل خطواتي المتثاقلة..
أتذكّر جمال عبد الناصر وذكرى أقسى هزيمة تسبّب بها للأمة تقترب. أتذكّر صديقي عبد الله عبد الجواد، وجهه يذكّرني بعبد الناصر، أتذكّر حركة أحرار. يدوي في مخيلتي هتافهم: (الحدود تراب، الحدود تراب).
أنظر إلى الأجساد المتناثرة هنا وهناك، أتذكّر صورة محمد مرسي في عيون الناس، أتخيل هضبة المقطّم، ومصر التي صارت محطّة وأرصفة.. ويتردّد في مخيّلتي صدىً مجهول: (الكرامة تراب، الكرامة تراب).
تمّت
فارس الصغير – صباح 3 يونيو 2013م